الرئيسية الأخبار اليومية الكاتدرائية النوبية الكبرى

الكاتدرائية النوبية الكبرى

بواسطة مجلة السودان
3.9K مشاهدات

✍️ هيثم عباس عبد الرحيم محمد

بحلول القرن الثالث عشر الميلادي كانت كاتدرائية فرس العظيمة بالنوبة قد غمرت بالرمال، وتدمرت أختها كاتدرائية الأعمدة الحجرية بدنقلا العجوز عاصمة المملكة النوبية المتحدة على يد جيوش المماليك القادمة من الشمال بعد سلسلة من الحروب أدت في النهاية إلى أفول نور الديانة المسيحية ببلاد النوبة.

في ستينيات القرن الماضي و بسبب قيام السد العالي بأسوان عملت بعثة آثار بولندية في موقع فرس العاصمة القديمة لمملكة نوباديا إحدى الممالك النوبية الثلاثة التي كونت الواجهة السياسية لبلاد النوبة في القرون الوسطى مع مملكة ماكوريا والتي اتخذت من مدينة دنقلا العجوز عاصمة لها، و مملكة ألوديا وعاصمتها سوبا بالقرب من الخرطوم بحلول القرن السابع الميلادي اتحدت مملكتا نوباديا وماكوريا مكونة مملكة واحدة قوية عرفت بمملكة النوبة، والتي اتخذت من مدينة دنقلا العجوز العاصمة السابقة لماكوريا عاصمة سياسية و إدارية واحدة للمملكة النوبية المتحدة بينما بقيت فرس كمركز للإشعاع الثقافي و الروحي.

نموذج كاتدرائية فرس

لم يدر أولئك الآثاريون البولنديون أن الرمال تخفي تحتها كنزاً معمارياً و فنياً متميزاً مثّل أفضل الأمثلة للفنون الأفريقية في القرون الوسطى مشكلاً ما يشبه مدرسة فنية نوبية محلية متأثرة بتيارات فنية من كل أنحاء العالم آنذاك.

أصبح اكتشاف كاتدرائية فرس في الستينيات حدثاً عالمياً فريداً تناقلت أخباره كُبريات وسائل الإعلام العالمية، و أثار اهتمام الناس في كل أنحاء العالم الذين تسابقوا لإلقاء نظرة على تلك الفنون التي عادت إلى الظهور إلى ضوء الشمس بعد قرابة الألف عام من النسيان و الدفن تحت رمال النوبة و التي حفظتها بحالة جيدة مكنت العلماء من دراستها باعتبارها تمثل العصر الذهبي للفن النوبي في القرون الوسطى.

لم تكن كنائس و كاتدرائيات دنقلا العجوز التي تعود إلى فترة الإزدهار النوبي في القرنين العاشر و الحادي عشر الميلاديين بذات حظ كاتدرائية فرس فقد تعرضت جميعها للتدمير جراء الحرب التي نشبت بين المماليك و النوبيين.

توجه علماء الآثار البولنديون بعد إنتهاء مهمتهم في فرس بغرق الموقع و إنقاذ ما يمكن إنقاذه من الآثار و اللوحات الجدارية الرائعة و التي تزين اليوم متحفي السودان القومي و المتحف الوطني بوارسو توجهوا بأنظارهم صوب موقع العاصمة القديمة دنقلا العجوز، و مع تقدم الحفريات بالموقع والتي بدأت في العام ١٩٦٥م تكشفت آثار و مباني رائعة و ظهر أن هذا الموقع الأثري يخفى الكثير من الآثار التي لا تزال تكتشف منذ ذلك العام و حتى وقتنا الحالي.

كانت دنقلا العجوز حصناً منيعاً تأسيس في القرن الخامس الميلادي و كانت نقطة إنطلاق و تلاقي للقوافل القادمة و الذاهبة من الغرب و الشمال ثم تطورت المدينة مع قدوم المسيحية في القرن السادس الميلادي و تحولت إلى مركز حضاري مهم؛ خصوصاً بعد اتخاذها عاصمة للمملكة النوبية المتحدة في القرن السابع الميلادي و شهدت المدينة العصر الذهبي للنوبة بين القرنين التاسع و الحادي عشر الميلاديين و قد نمت المدينة لتشمل الكنائس و الأديرة و القصور و المساكن ذات الطوابق المجهزة بإمدادات المياه و التدفئة و إزدهرت الصناعات كصناعة الفخار الذي مثّل مجموعة راقية من الأدوات المختلفة.

 

كاتدرائية وسط المدينة و إعادة قراءة التاريخ :

لم يكن أحدث اكتشافات البعثة البولندية للآثار التابعة لجامعة وارسو – مركز آثار البحر الأبيض المتوسط أكاديمية العلوم البولندية بقيادة البروفيسور أرتور أوبوسكي في شهر مايو ٢٠٢١م الماضي حدثاً عادياً؛ فقد أعاد إلى النور اكتشاف كاتدرائية عظيمة تقع في وسط مدينة دنقلا العجوز، لم تكن معروفة من قبل و تكمن الأهمية القصوى لهذه الكاتدرائية الجديدة في كونها تعود إلى عصر الإزدهار النوبي فقد كانت قائمة في ذات الوقت مع كاتدرائية فرس العظيمة في القرن العاشر الميلادي و بواكير القرن الحادي عشر الميلادي.

الجزء المكتشف الجدار الدائري الأعلى للقبة

هذا الإكتشاف الحديث – رغم عدم اكتمال الحفريات و التي يأمل في أن تستمر في الموسم الآثار القادم- يحمل مؤشرات قوية بتميز اللوحات الفنية التي ظهرت أجزاءها العليا في هذا الموسم، إكتشفت البعثة البولندية لوحات تصور صفين من الأشكال الدائرية جنباً إلى جنب، إضافة إلى صفين من الشخصيات من المرجح أن يكونوا الرسل حسب الإعتقاد المسيحي، و هذه اللوحات طولها حوالي عشرة أقدام تقريباً.

ترميم وتنظيف اللوحات

وقد بدأت على الفور عمليات الترميم والحفاظ على هذه اللوحات المكتشفة بواسطة أكاديمية الفنون الجميلة بوارسو تحت إشراف البروفيسور كرزيستوف شميليوسكي من خلال تعزيز الجص الذي رسمت عليه و تنظيفها من الأوساخ و الأملاح ويضيف البروفيسور شميليوسكي :

” عندما يتم بناء سقف مناسب فوق هذا الاكتشاف القيّم سيكون من الممكن البدء في الحفظ الجمالي النهائي للوحات”.

يعود تاريخ هذه اللوحات إلى القرن العاشر أو أوائل القرن الحادي عشر الميلاديين.

إعادة بناء الكاتدرائية

يتميز التصميم المعماري للكاتدرائية بجدار ضخم دائري الشكل و تشير القياسات الأولية للأجزاء المكتشفة بأنها قد تكون هي الأكبر ببلاد النوبة في القرون الوسطى و هناك كثير من أوجه الشبه المعمارية مع كاتدرائية فرس مثل موقع الكاتدرائية في منتصف القلعة القديمة لمدينة دنقلا العجوز، و كذلك القبر المقبب الذي بني من جهة الشرق يماثل القبر المقبب للأسقف يونس أسقف فرس و الذي بني بجوار الكاتدرائية و هذا القبر المقبب يفوق قبر قبر فرس بخمس مرات في الحجم و يتميز بحجم قبتة الكبيرة.

يفترض الباحثون أن هذه الكاتدرائية المكتشفة هي الكاتدرائية الرئيسة لمدينة دنقلا العجوز، و التي مثلت مقراً لرئيس الأساقفة و الذي امتدت سلطتة الدينية على كل بلاد النوبة عكس تلك الكنيسة التي عرفت بأنها كاتدرائية المدينة و التي تقع خارج أسوار المدينة و يقول البروفيسور أرتور أوبوسكي :

إن هذا المبنى المكتشف ستؤثر معالمه على العمارة الدينية للنوبة على مر القرون و أن هذا المبنى مختلف تماماً عما هو معروف.

ترقد الأجزاء المكتشفة في ما يقرب من التسعة أمتار؛ و هذا يعني أن هذا الجزء الشرقي من المبنى يشير إلى إرتفاع مذهل يماثل مبنى حديث مكوّن من ثلاثة طوابق و يضيف البروفيسور أرتور أوبوسكي قائلاً :

هناك المزيد من اللوحات و النقوش تحت أقدامنا كما هو الحال في فرس.

يذكر أن وسائل و وسائط إعلامية عالمية كثيرة تناولت قصة هذا الاكتشاف الأثري الهام لما يمثله من أهمية قصوى تعيد إلى الأذهان ذكريات اكتشافات الحملة العالمية لإنقاذ آثار النوبة في ستينيات القرن الماضي.

ربما يعجبك أيضا

اترك تعليقا

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. أقبل أقرا المزيد...