حكمة إسكافي

بواسطة مجلة السودان
327 مشاهدات

 

كان صباح يوم لايُعرف موسمه.. قليل من الغبار وكثير من أشعة الشمس الحارقة.. نظرت إلى الساعة فوجدتها كادت تتجاوز التاسعة.. بخطوات مسرعة شقت طريقها.. إلى أن لفحتها نسمة هواء باردة.. لم تدري من أين أتت؟ ربما متسللة من تحت ظل إحدى سحابات السماء الشاردة.. هكذا هي الأيام تتقلب وترينا ذلك بعض فصولها..

أسرعت تقطع الشارع.. إزدحام لاتخطئه العين على الطريق.. لم تنتبه إلى حذائها الذى بدا وكأنها إنتعلته منذ قرون.. إستحت منه إلتفت يميناً ويساراً فهي تذكر أنه كان هنا فى مكان ما.. هاهو ذاك بغطاء رأسه الذي يجعله أشبه بالمتصوفة.. وتلك اللحية التي أضافت إلى عمره سنين لايستهان بها وهو الذي إن طرحت عن عمره الشقاء لكان شاباً فى عقده الرابع لامحالة. يجلس فى سكينة عند زاوية الشارع متخذاً إياه مقراً لممارسة عمله، كان ممسكاً بحذاء أسود مهترئ حين تقدمت نحوه وألقت التحية، نظر إلى حذائها ثم إليها وإبتسم

“لقد نطق حذاءك عنك يا سيدتي”..

فردت مبتسمة “أعيته وعورة الطريق”..

نظر إلى الحذاء بين يديه وتمتم “وهل في هذه الحياة من طرق ممهدة؟”..
ثم استدرك مبتسماً كمن يرفع ساقطاً “إنما الحياة طرق نرسم ملامحها بخطانا”..

“أراك بصيراً بمجاهدة اليأس”..

ضحك ووضع الحذاء من بين يديه، ناولها مقعداً صغيراً وقطعة من ورق الكرتون القديم توسد عليه قدميها ريثما يفرغ من لملمة شتات حذائها.

أخذ الحذاء ونظر إليه بعمق كمن يقرأ كتاباً، ثم دس يده بداخله حتى كادت تبين من تلك الفتحة المستقره فى مقدمته، قربه إلى أذنه أخذ يحركه هكذا؛ يفتحه ويطبقه.. يفتحه ويطبقه..
ثم إلتفت إليها “أتودين سماع بعض من حديثه”..

“إن كان ممكناً؟!”..

قرب الحذاء إلى إذنها.. وآخذ يحركه كالسابق..
“هل تسمعين؟؟”..

“لا أسمع سوى إنطباق الحذاء إن كان ذلك حديثاً!!”..

“أتدرين يا سيدتى لماذا لم تسمعي؟؟”..

ردت ضاحكه “ربما لأن الحذاء لايتكلم!!”..

أخذ يحركه ويدندن نشيداً ليس غريباً عليها ربما بقايا لحن عالق بذاكرتها، ثم تناول إبرته وهم بالحذاء في خفة وحرفية شديدتين، وكلما صغرت فتحة الحذاء إنحسر صوت الأغنية. ألجم الحذاء بخيطه إلا أنه ظل يصدر صوتاً ضعيفاً أشبه بالأنين منه إلى الأغنية..

وضع الحذاء على الأرض أمامها.. فكان كما ولدته إبرة خياطه البكر أو هكذا بدى لها..

ثم قال لها “ربما لم تسمعي لأنك لم تدركي لغة الحذاء بعد!!”..

“أماهر وفيلسوف بعد”..

“قد يجد كل منا فى عمله منفذاً لعلم لم ينبغي لغيره.. وبعض الحكمة تزكيه أيضاً”..

أومأت برأسها مبدية الموافقة والإهتمام..

“مر علي من الأحذية ما نقل لي من أثر الأرض حكايا.. قراءة عيني وإصطناع السمع”..

“إنما نسمع ماتهوى آذاننا أن تسمع.. ونستنطق لذلك الصامت”..

“أصبتِ.. نستنطق لذلك الصامت ونلجم مادون ذلك”..

إسترجعت بسرعة حركته وهو يخيط الحذاء ويحسر صوت دندته بالأغنيه في تزامن مع حركة الأبره..

فسألته “أأتقنت إلجام مالاتهوى؟؟”..

فنظر إلى مجموعة من الأحذيه التي أنكرها أصحابها بقربه..

“هو أمر لانتقنه وإن إمتهناه”..

“تجعلني بحديثك هذا تواقة لسماع حذائى وإن كنتَ قد أسكته”..

“مابه صوت يُسمِع لايضيره قوة اللجام”..

إنحسرت الغيمات التى كانت تظل المكان.. وبدت أشعة الشمس تستعرض قوتها على جباه الماره.. فانتبهت إلى أن الوقت قد مضى مسرعاً.. أدخلت قدمها فى الحذاء وضربت به الأرض.. ثم ناولته أجره وقالت فى رضا “مستعدون نحن لرسم الطريق”..

فابتسم لها قائلاً “ومستعدون لإرهاف السمع أيضاً”..

إنطلقت مبتعدة فى خطوات واثقه.. وهى تردد فى نفسها “مابه صوتٌ يُسمِع لايضيره قوة اللجام”.

بت النور.. أبريل ٢٠١٥

ربما يعجبك أيضا

اترك تعليقا

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. أقبل أقرا المزيد...